الرغبة و الحاجة
دروس أولى باك
مجزوءة الإنسان
يرغب الطفل الرضيع في جعل ثدي أمه دائم العطاء و دائم الحضور، و لا يتعلق الأمر – في علاقة الطفل بثدي الأم – بالحاجة إلى الطعام فقط، ذلك أن الطفل يرغب أيضا في التخلص من دوافعه التدميرية، و من قلقه الاضطهادي. فعند تحليلنا لشخصية الراشد نجد لديه هذه الرغبة في أم قادرة على القيام بكل شيء، و أن تحمي ذاته من كل المعاناة و الشرور، التي يكون مصدرها من داخل الذات أو من خارجها.
لنلاحظ بهذا الصدد، و نحن نتناول الطرق الجديدة في إرضاع الطفل، كيف أن بعض هذه الطرق، خصوصا تلك التي تكون أقل ضبطا لزمن الإرضاع، و الأكثر ملاءمة لحاجات الرضيع، مقارنة مع طرق أخرى، و التي تلتزم التزاما صارما بأوقات محددة للإرضاع، ففي الحالة الأولى يصادف الطفل صعوبات في تحقيق جميع رغباته؛ لأن الأم عاجزة عن إزالة جميع الدوافع التدميرية لطفلها و قلقه الاضطهادي، أما في الحالة الثانية فإن العناية المبالغ فيها لأم تجاه رغبة طفلها، و التي تتجلى في قيامها بإرضاعه كلما بكى و طلب ثديها، هذه الأم لا تزيل عنه معاناته و آلامه. و بواسطة تحقيق رغبته في الأكل، يدرك لاشعوريا، قلقها، فيتعمق لديه نفس القلق.
لقد سمعت من بعض الراشدين شكواهم من هذه العلاقة الشيئية بثدي الأم، إذ لم يكن لديهم في طفولتهم المبكرة، مساحة البكاء الفاصل بين الرغبة و تحقيقها، لم يسمح لهم بأن يعبروا بالبكاء عن قلقهم و عن توتراتهم و معاناتهم. فهؤلاء لم تتمكن دوافعهم التدميرية و لا قلقهم الاضطهادي من أن يجد له مخرجا يتنفس من خلاله... إذا كان إحباط رغبة الطفل غير مبالغ فيه، فإن ذلك بإمكانه أن يساعده على التكيف السليم مع العالم الخارجي، و يتطور لديه مفهوم الواقع؛ فمجموعة من الاحباطات، التي تليها مجموعة أخرى من التحفيزات و التشجيعات، الصادرة عن الأم، تمكن الطفل بالفعل، من الشعور أنه قادر على مواجهة قلقه، كما يتبين أيضا أن رغبات الطفل غير المشبعة، و أكرر هذا الأمر، تساهم في فتح الطريق مستقبلا للإعلاء و للأنشطة الإبداعية.
مقابل ذلك، إن غياب هذا الصراع بين الرغبة وإشباعها عند الطفل، سيمنع الفرد من إغناء شخصيته، وسيحرمه من عنصر أساسي يساهم في تثبيت الأنا، ذلك لأن كل صراع أو أزمة، يتضمن بالضرورة تصور حل لهذا الصراع، الذي يشكل أساس العملية الإبداعية .
ميلاني كلاين، الرغبة والامتنان، غاليمار 1968، ص: 25-26
التَّعريف بصاحبة النَّص .
ميلاني كلاين (1882-1960) هي محللة نفسية نمساوية الأصل، تنحدر من أسرة يهودية . اهتمت ميلاني كلاني بتحليل شخصية الأطفال، وتكوينهم النفسي، وكانت لها طريقة خاصة، ومتميزة في ذلك، غير أنها لم تدرس علم النفس، ولا الطب النفسي، ولكن قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى، قرأت مقالا لفرويد بالصدفة، فتأثرت به كثيرا، إذ شكل لها ذلك حافز، للإهتمام بالتحليل النفسي، حيث بدأت تتعلم على يدي ساندوز فيرينزي .
الإشكاية .
ماهي علاقة الرغبة بالحاجة ؟ وكيف تتحول علاقة الطفل بثدي أمه، من الحاجة إلى الغذاء، إلى إشباع حاجات نفسية لاشعورية، وهل تستطيع الأم من خلال الإرضاع، أن تخلص طفلها من دوافعه التدميرية، وقلقه الإضطهادي، أم تفشل في ذلك، وكيف يلعب الإحباط، وعدم اشباع رغبات الطفل، دوراً في تكوين شخصيته وتطويرها ؟
الأطروحة .
إن علاقة الطفل بثدي أمه، لاتتعلق بتلبية حاجاته الغذائية فقط، ولكن يتحول هذا الثدي إلى مصدر، لإشباع رغبات ودوافع نفسية لاشعورية، إن الأم حينما تتحكم في طرق الإرضاع، وتضبطها بعناية، تتمكن من خلال ذلك، من مساعدة طفلها على التخلص من دوافعه التدميرية، ومن قلقه الإضطهادي الذي يكابده، الأمر الذي يساهم في تكوين شخصية الطفل في المستقبل .
الأفكار الأساسية .
- تتحول علاقة الطفل بثدي أمه، من مصدر لتلبية حاجاته الغذائية، إلى مصدر لإشباع رغبات نفسية لاشعورية، تتمثل في احساس الطفل بالطمأنينة والأمان، وفي التخلص من توتره الناجم عن احساسه بالحرمان .
- تلعب طرق الإرضاع التي تتخذها الأم في تلبية حاجات طفلها من الطعام، دورا في اشتغال رغباته اللاشعورية، ويتحدد ذلك من خلال طريقتين في الإرضاع :
الطريقة الأولى : تقنن فيها الأم زمن الإرضاع، ومواعيده بدقة .
الطريقة الثانية : تتساهل فيها الأم مع رغبات طفلها، ولا تُحدد فيها أي مواعيد معينة للإرضاع .
ملاحظة : في الطريقتين معا؛ فإن الأم لاتفلح في تخليص طفلها من التوتر .
- تشكل الرضاعة المقننة، وغير المبالغ فيها، طريقة مثلى في تكوين شخصية الطفل، وفي تمكينه من ربط علاقة بالعالم الخارجي، إذ اتضح من خلال اعترافات وشكاوي الراشدين، أنهم لم يتمكنو في صغرهم من التعبير عن رغباتهم ودوافعهم النفسية، بسبب الرضاعة الفوضوية، التي كانوا يتلقونها من أمهاتهم .
- تسمح الرضاعة المقننة في تفريغ الرغبات المكبوتة، الشيء الذي يساهم بالإيجاب، في تكوين شخصية الطفل المستقبلية .
الأساليب الحجاجية .
اتخذت صاحبة النص للدفاع عن أطروحتها، وعن أفكارها الأساسية، جملة من الأساليب الحجاجية، والتي يُمكن أن نستخلصها في الأساليب الحجاجية التالية :
أسلوب الدحض والنفي .
" لايتعلق الأمر في علاقة الطفل بثدي أمه، بالحاجة إلى الطعام فقط " .
لتؤكد صاحبة النص بعدها مفسرة هذا الدحض، بكون أن الحاجة للطعام، يمكن أن تتحول إلى رغبة نفسية لاشعورية، يتحكم فيها قانون الصراع بين الإشباع والإحباط، من خلال طرق الإرضاع المختلفة .
في الطريقة الأولى تجد الأم فيها صعوبات، لتحقيق رغبات طفلها، لأنها لا تستطيع أن تخلصه من جميع دوافعه التدميرية .
وتستحضر صاحبة النص شهادة الكبار، لكي تفسر بأن الرضاعة الفوضوية، قد أثرت على شخصية الكبار .
أسلوب التقابل .
" مقابل ذلك، إن غياب هذا الصراع عند الطفل، بين الرغبة وإشباعها، سيمنع الفرد من إغناء شخصيته ".
حيث قابلت صاحبة النص بين اشباع رغبة الطفل وإحباطها، لتؤكد بأن هذا التقابل والصراع، إذا تم نفيه من حياة الطفل النفسية، فإنه سيمنعه من تكوين شخصيته، وتفجير طاقاته الإبداعية في المستقبل.
إرسال تعليق