" معرفة الغير ''
الإشكالية
هل يمكن للذات أن تتعرف إلى الغير باعتباره وعيا ووجدانا ؟ ألا يمكن اعتبار أن معرفة الغير على وجه التحقيق، أمرا صعبا للغاية ؟ و إذا ما كانت معرفة الذات بالغير ممكنة ؟ فكيف يمكن لنا تحقيق هذه المعرفة إذاً ؟
تصور نيكولا مالبرانش .
لا يمكن للذات أن تُكون معرفة عن الغير؛ لأن معرفة الغير، لا تعدو أن تكون مجرد معرفة تخمينية وافتراضية، حتى وإن ادعى الإنسان إمكانية ذلك، ويرجع هذا إلى كون أن التجارب التي يعيشها الإنسان، تجارب تختلف من شخص لآخر، ولا يمكن أن تكون التجارب مشتركة بين الجميع، عندما أشعر بالحرارة؛ فذلك لايعني بأن الآخر يشعر بنفس المقدار، الذي أشعر به أنا، وبالتالي فالغير لا يعيش نفس تجاربنا، ولايعرف حقيقة ما نمر به، مما يعني بأنه لايشبهنا، ولا يشعر بنفس ما نشعر به؛ وبالتالي فحينما نصدر حكما على أن الغير، يشعر بنفس ما نشعر به، أو أنه يشبهنا في بعض التجارب التي نعيشها، نكون قد أصدرنا حكما خاطئا .
تصور جون بول سارتر .
لايمكن إدراك الغير ومعرفته، لأن ابتغاء ذلك يعني تحويله إلى موضوع، وهو مايؤدي إلى تشييئه وسلبه مقوماته الذاتية، من وعي وحرية وإرادة، وبهذا يرى سارتر بأن معرفة الغير؛ باعتباره ذاتا أخرى، يظل أمرا مستحيلا، لأن تحصيل هذه المعرفة يقتضي مني النظر إليه بوصفه جسم، وهذا الجسم هو شيء خارج عن ذاتي، ولا علاقة لي به، وبالتالي فإن معرفة الذات بالغير، تظل معرفة مستحيلة، لأنها تتطلب مني تحويله إلى موضوع، وشيء من الأشياء.
تصور ميرلوبونتي.
إذا أردنا فهم الغير، ومعرفة مايختلج داخله من مشاعر وأحاسيس، فلا بد لنا من تجاوز نظراتنا التشيئية له، ولابد لنا أيضا من التعاطف معه، إن التعاطف وحده، هو الكفيل بتحقيق معرفتنا بالغير، فإدراك مخاوف، وآمال، ومعاناة الغير، لايمكن أن يحدث إلا من خلال إدراكنا لمخاوفنا، وآمالنا، ومعاناتنا، ماذا يعني ذلك ؟ حينما أشعر بالخوف، فإن اختباري لهذا الشعور، يجعلني أتفهم شعور الآخر بالخوف أيضا، وعندما أكابد مشقة ما، فإني أدرك حجمها، حينما أرى الآخر أيضاً يُكابدها، حينما أستشعر معانيَ الإنسانية أستطيع حينها فهم عوالم الآخرين، ومايكتنفها من غموض واللتباس، إنني أدرك بأن معرفتي بالغير، لايمكن أن تكون، إلا من خلال تعاطفي، وتواصلي معه، الشيء الذي يجعلني مدركا بأن الخروج من حدود الذات الضيقة، والإنفتاح على الغير، هو الشرط الأساسي لتحصيل معرفتنا به .
وهكذا فنظرات الغير لي، لايمكنها أن تحولني إلى موضوع، كما أن نظراتي له، لايمكنها أن تحوله إلى موضوع، وبالتالي أصبح أدرك الغير كذات، لها عقل ووعي، وكذات قابلة للإدراك والمعرفة .
تصور غاستون بيرجي.
إن العلاقة الحميمية، التي تعيشها الذات مع ذاتها، تقف عائقا أمام كل تواصل مع الغير، لكل منا عالمه الخاص، ولكل منا تجاربه الخاصة، وذلك يعني بأن عالمنا، عالمٌ يختلف عن عالم الآخرين، ومدام الأمر كذلك؛ فإن تحقيق المعرفة، وإدراك الآخر، يظل أمرا صعبا، إن لم نقل مستحيلا، حينما يشعر الإنسان بالحزن أو الألم؟ لا يمكن لأي أحد مهما كان، أن يعرف مقدار هذا الحزن الذي يشعر به، قد يمد له انسانٌ يد المساعدة، وقد يرغب انسانٌ آخر في مواساته، ولكن تجربة الألم تلك،التي يشعر بها هو، تبقى تجربة غريبة عن ذاتنا، وتجربة صعبة الإدراك، مهما حاولنا نحنُ استشعارها، ومحاولة فهمها .
تصور ماكس شيلر.
يعتبر ماكس شيلر، على خلاف باقي التصورات الأخرى، أن معرفة الغير ممكنة، وذلك شريطة أن يتم التعامل مع الغير، كأنه وحدة متكاملة، بمعنى أن نتجاوز القول؛ بأن الغير يتألف من مظهرين، واحد خارجي والآخر داخلي، حينما نعتبر بأن ما يحصل في عالم الذات، يمكن أن يتبدى من خلال المظهر الخارجي، يمكن حينها أن تعرف إلى الغير ببساطة، كما يمكن من خلال آلية التعاطف الوجداني، والإحساس بما يشعر به الآخر، ويمر به من أحاسيس ومشاعر، أن نتعرف له، ونتفهمه، صحيح بأن الذات لا يمكن أن تشعر بما يشعر به الآخر، على وجه اليقين، ولكن حينما تحاول الذات أن تشعر به، وتتفهم طبيعته النفسية، يمكنها حينها أن تتعرف إليه؛ فمن خلال ابتسامته تدرك فرحه، ومن خلال دموعه، تشعر بحزنه، وهكذا يمكن لمعرفة الغير حسب ماكس شيلر أن تتحقق .
خلاصة
كما أن للذات وجودها المستقل، وحياتها النفسية الخاصة؛ فكذلك للغير وجوده المستقل، وحياته النفسية الخاصة . معرفة الغير ليست دائما مستحيلة ، كما أنها ليست دائما سهلة، إذ يمكن لنا تحقيق هذه المعرفة غالبا من خلال التواصل، والإنفتاح على الغير، ومشاركته أحاسيسه، إذا ما سمح لنا هو بذلك، ولكن تبقى معرفة الغير معرفة صعبة، إذا ما هو أغلق على نفسه كل منافذ التواصل، ومنع كل أحد من ولوج عالمه الخاص .
إرسال تعليق